عشنا على إرث عجيب من بينه أن «اللى اختشوا ماتوا!» كما تحكى الأسطورة الشهيرة والتى صارت عنوانا أو أساسا للتبجح فى كل شىء.. وكأن البقاء صار للأوقح، للأكثر قدرة على الصراخ وصناعة الضجيج.. لا أعرف صحة هذا الأمر وهو ليس موضوعى فى السطور القليلة القادمة.
موضوعى عن (اللى اختفوا!) تتساءل فى تعجب عن أحد الأسماء المحببة إلى قلبك على الساحة الفنية أوالاجتماعية وتتعجب أين ذهب؟ فتأتيك الإجابة: ما اعرفش اختفى! تتساءل: كيف؟ تبحث فلا تجد أخبارا عن مشكلة أو أزمة.. مجرد اختفاء هادئ دون ضجيج ودون إحداث مشاكل وافتعال أزمات.. أسماء لامعة فى المجال السياسى أو الاجتماعى أو الاقتصادى وبطبيعة الحال المجال الفنى.. اختفوا من مواقعهم فى هدوء.. ولم ننتبه إلا بعد أن افتقدنا وجودهم.
وتذكرنى الطريقة الهادئة بموقف عشته منذ سنوات عندما رحلت عن إحدى المؤسسات وقالت لى صديقة: هتنسحبى بسهولة كده؟ فقلت لها بحسم لم أعرف من أين جئت به وقتها «مااسمهاش..هانسحب.. اسمها (هامشى) بهدوء كده ومن غير زعل.. المنسحب حد شايف إنه خسران حاجات.. إنما اللى ماشى.. شايف سكته.. عارف هو سايب إيه ورايح فين!».
وأعتقد أن نفس تلك الحسبة البسيطة تنطبق على كثيرين من الوجوه التى نعرف أنها تستطيع أن تصنع فرقا ولكنها اختفت واختارت تلك الطريقة الهادئة لتفادى خسائر ممكنة كان من الممكن أن يسببها استمرارهم فى مواقعهم- دون صلاحيات ودون حرية على المستوى الشخصى والمهنى- والمثير للعجب أننا نفتقد معظم الوجوه النبيلة ومعظم الشخصيات التى كنا نتوسم فيها أن تصنع فرقا! وأن تقدم خيرا ربما لأننا ما زلنا فى مرحلة ترتيب الأوراق وربما لأن الساحة الفنية والاجتماعية مازالت متخبطة وثمة كثير من المتغيرات ما زالت تحدث كل يوم؛ مما يجعلنا ننظر إلى قرارات تلك الرموز (بالاختفاء) بكثير من الاحترام.. فربما الساحة ليست فى حاجة إلى مزيد من الضجيج وربما أولئك الذين كنا نرغب فى مساعدتهم لا يريدون أصلا منا مساعدة، وربما أن ما لدينا ليس جديرا بالاهتمام بالنسبة لهم.. المهم ألا تستنزف نفسك فى دوائر لا تستطيع أن تقدم فيها شيئا جديدا.. ولا تضيع وقتك فى محاولة البقاء على ساحة لن تكون أبدا مصدر إضافة لها ولم تأخذ أصلا إمكانات التعايش معها.
أحيانا أحسد هؤلاء الذين فضلوا الاختفاء.. عن ساحات يموت فيها نبلاء كل يوم.. لأن ببساطة.. اللى اختفوا (عاشوا) حياتهم بكل تفاصيلها الحلوة بعيدا عن صراعات تستنزف العمر والوقت بلا طائل!